قيود البحث الاجتماعي في مصر- نحو رؤية شاملة وتحديات التغيير.

المؤلف: د. عمار علي حسن11.05.2025
قيود البحث الاجتماعي في مصر- نحو رؤية شاملة وتحديات التغيير.

دأبت المؤسسات العلمية والأكاديمية المتنوعة، التي تعتمد المناهج والأدوات البحثية الدقيقة، على دراسة المجتمع المصري بتفحّص، ساعيةً إلى استجلاء إشكالياته المعقدة، واقتراح الحلول الناجعة لها. ومع ذلك، غالبًا ما تفتقر هذه الجهود إلى التنسيق المحكم، الضروري لمنحها منظورًا شموليًا، يمكّننا من إدراك الترابط الوثيق بين المشكلات والظواهر والقضايا المختلفة، على نحو ما تتجلى في الواقع المعيش.

تنتشر الدراسات المتفرقة، مدفوعةً بطموح باحثي علم الاجتماع نحو الارتقاء الأكاديمي، أو استجابةً لمتطلبات بعض الهيئات الحكومية، التي تدرك أهمية إجراء دراسة اجتماعية متخصصة قبل اتخاذ قرارات مصيرية تؤثر في مناطق سكنية، أو شرائح اجتماعية متباينة، أو فئات عمرية محددة. وتُجرى أيضًا دراسات بتكليف من مؤسسات دولية تتعاون مع المجتمع المدني، بهدف استكشاف الواقع الاجتماعي بعمق قبل الشروع في أي مبادرة، وفهم تفاصيله بدقة قبل تقديم الدعم أو التمويل.

تحولات جذرية

يظلّ الغياب طاغيًا للدراسات المتكاملة التي تتبنى مسحًا شاملاً للمجتمع، لا تغفل صغيرة ولا كبيرة، بل تتناول كل جوانبه بفحص دقيق، مستخدمةً أحدث الطرائق والأساليب العلمية. فمنذ المسح الشامل الذي أجراه "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" للمجتمع المصري في عام 1981، لم يتكرر هذا الجهد القيّم، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود حافلة بالتغيرات العميقة التي طرأت على المجتمع، والتي تستدعي بدورها إجراء دراسة شاملة ومتكاملة.

قبل ذلك بحوالي قرنين من الزمان، قدّم علماء الحملة الفرنسية موسوعتهم الشهيرة "وصف مصر"، التي استعرضت بدقة متناهية كل تفاصيل الحياة في مصر، بهدف فهم الأوضاع الشاملة لبلد غَزوه، وتمنوا البقاء فيه محتلين لقرون مديدة. إلا أنهم اضطروا لمغادرته بعد ثلاث سنوات فقط، تاركين وراءهم دراساتهم العلمية القيمة، التي استفاد منها المصريون أيّما استفادة في العقود اللاحقة.

وتكرر الأمر بصورة أخرى مع "الخطط التوفيقية" التي وضعها علي باشا مبارك، في إطار تصوراته الطموحة للنهوض بالبلاد، خاصة في ميدان التعليم. وعلى الرغم من أن هذا العمل تضمن بعض الجوانب الاجتماعية، إلا أن هدفه الرئيسي كان وضع أطلس شامل يصف مدن مصر وقراها منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، مع تفصيل دقيق للشوارع والحارات، والمنشآت الدينية والتعليمية، والآثار الفرعونية، بالإضافة إلى تراجم للأعيان والأدباء والأولياء.

خطوط عريضة

أصبحت هذه الدراسات الثلاث الشاملة جزءًا لا يتجزأ من "تاريخ المجتمع" و"تاريخ العلم الاجتماعي"، ويمكن الرجوع إليها كخلفيات أساسية للدراسات المعاصرة. غير أنها لا تغني عن الحاجة الملحة إلى دراسات جديدة لمجتمعنا، تراه في ترابطه وتفاعله، أو في التأثيرات المتبادلة للظواهر والمواقف والأحداث، التي تتشابك في الواقع، ولا تنفصل إلا في الدراسات الصغيرة أو المتخصصة، التي تركز على جانب محدد وتتعمق فيه للكشف عن خباياه.

وهناك دراسات كلية قام بها باحثون مرموقون، تناولوا المجتمع بمنظور واسع، واهتموا بتقديم رؤى عامة واستخلاصات شاملة، مقدمين بذلك استبصارات قيّمة لم تخلُ من بعض الانطباعات، ولم تعتمد بشكل أساسي على الدراسات الميدانية، وإن كانت قد استعانت ببعضها. ويبرز في هذا السياق موسوعة "شخصية مصر" لجمال حمدان، التي انطلقت من الجغرافيا لتحليل الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية لمصر.

ويضاف إلى ذلك كتاب "في أصول المسألة المصرية" لصبحي وحيدة، وكتاب "الشخصية الوطنية المصرية" لطاهر عبدالحكيم، وكتاب "الدولة المركزية في مصر" لنزيه نصيف الأيوبي، بالإضافة إلى النظرة الشاملة التي قدمها جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟".

إذًا، نحن أمام ثلاث حالات متباينة: دراسات جزئية متناثرة تخدم المعرفة الاجتماعية أو تلبي احتياجات صناع القرار، ومسح شامل تجاوزه الزمن، ودراسات كلية رسمت الخطوط العريضة ولم تتعمق في التفاصيل، على الرغم من أن بعضها، مثل كتاب جمال حمدان، كان يركز على الجغرافيا وتحليل عبقرية المكان.

معوقات جمة

يواجه المسح الشامل لمجتمعنا معوقات جمة، في مقدمتها موقف السلطة الحاكمة، التي قد تتحفظ – لأسباب تُرجعها إلى دواعي الأمن القومي – على إجراء دراسة شاملة للمجتمع في صورته الراهنة، وإتاحة نتائجها العلمية لعموم الباحثين. وقد ترى السلطة أيضًا أن الدراسات المتتابعة التي تقوم بها بعض المؤسسات والهيئات العلمية والإدارية التابعة لها تغنيها عن الاستعانة بالعلماء الأكاديميين في الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث.

ففي مصر، لا تنفك جهات مثل "المعهد القومي للتخطيط"، و"جهاز التعبئة العامة والإحصاء"، و"الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة"، و"الجهاز القومي للسكان"، و"مركز دعم واتخاذ القرار" التابع لمجلس الوزراء، عن إجراء دراسات جزئية، كل فيما يقع ضمن نطاق اختصاصه وحسب ما يُطلب منه. غير أن هذه الدراسات تظل حبيسة الأدراج الداخلية.

كما تقوم "المجالس القومية المتخصصة" بإجراء دراسات متنوعة على الدوام. إلا أن كل هذه الجهود لا تصل إلى الرأي العام، ولا تتاح للباحثين من خارج هذه الجهات إلا بصعوبة بالغة. وفي الماضي، كانت بعض هذه الدراسات تتسرب إلى الصحافة، فتعرضها في صورة مختصرة أو مجتزأة، إلا أن هذا لم يعد ممكنًا في ظل القيود الشديدة المفروضة على الصحف.

ولا يجد المسؤولون عن هذه الأجهزة الفرصة سانحة لإطلاع الرأي العام على الحقائق، فكثير من الإحصائيات يتم التكتم عليها أو إخفاؤها عن أنظار الناس، إلا إذا رأت السلطة الحاكمة في الإعلان عنها مصلحة لها، أو استجابت لضغوط أثناء الأزمات للإفراج عن هذه المعرفة المحبوسة. وينطبق الأمر نفسه على بعض الباحثين الذين تستعين بهم السلطة لإعداد تقارير سرية، لا يطلع عليها إلا قلة قليلة.

أما القيد الثاني فيطال الباحثين المستقلين، الذين لا تُتاح لهم بسهولة فرصة إجراء دراسات ميدانية للنشر في دوريات أكاديمية أو إعداد أطروحات جامعية. فالباحث مُطالب بالحصول على موافقات عديدة قبل الشروع في بحثه، بما في ذلك موافقة جهاز الأمن، الذي يمتلك سلطة رفض بعض الموضوعات أو طلب تعديل أخرى.

فقدان المترجم المتبصّر

ثمة قيد ثالث يتعلق بإجراء البحوث الشاملة الجماعية، ويتمثل في ضعف التمويل. فالميزانية المخصصة للبحث العلمي عمومًا هزيلة، إذا ما قورنت باحتياجات الدولة والمجتمع. أما الميزانيات المرصودة لمراكز البحوث، فيذهب معظمها إلى الرواتب والمكافآت، ليتبقى للبحث العلمي نفسه نصيب ضئيل.

ويأتي القيد الرابع متعلقًا بالباحثين أنفسهم، إذ ينحصر اهتمام الأغلبية الساحقة منهم وخبرتهم في التخصصات الفرعية الضيقة، مما يحرم أي دراسة يقومون بها لظاهرة اجتماعية من إسهامات العلوم الأخرى الضرورية، بالنظر إلى تعقّد هذه الظواهر الإنسانية، وتداخل جوانب عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية ونفسية وتاريخية وجغرافية وفلسفية ولغوية وأنثروبولوجية في تشكيلها. كما يغيب عن الجماعة العلمية، في الغالب، روح الفريق، الذي يمكن أن يعوض هذا النقص ويسد هذا العجز ويستجيب لهذه الحاجة الضرورية.

كما تطغى على هذه الدراسات النزعة الأكاديمية الصرفة، من حيث الصياغة ومسار البرهنة والإحكام المنهجي أحيانًا، مما يحرم المجتمع العام من الاستفادة منها، خاصة مع غياب الوسيط المتبصّر القادر على استيعاب ما ينتجه الأكاديميون من دراسات، ثم إعادة صياغتها وعرضها بأسلوب مبسط يسهل على القارئ العادي فهمه، بحيث لا تقتصر هذه الدراسات على المختصين في أي فرع من فروع العلوم الاجتماعية.

لقد أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى نظرة شاملة لمجتمعنا، تشارك فيها إسهامات علوم شتى، وتُصاغ بلغة سلسة قابلة للتداول على نطاق واسع. ونحن بحاجة أيضًا إلى قامات تضطلع بمهمة الوسيط بين الأكاديمي والجمهور العادي باقتدار ورحابة صدر، لكي يعرف أفراد المجتمع المصري المعاصر إلى أي حال آل مجتمعهم، الذي عصفت به رياح التغيير العاتية، واجتاحت في طريقها الكثير من الأفكار والممارسات القديمة، وجاءت في أعقابها بكل ما هو جديد، والذي لم يتم رصده ودراسته حتى الآن على نحو وافٍ وسليم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة